الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومحمد بن كعب، وإطلاق المكان على الأعضاء مجاز، والظاهر أن هذا الإتيان في الآخرة.وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتًا لشدتها ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها: {وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات: {وَمِن وَرَائِهِ} أي من بين يدي من حكم عليه بما مر: {عَذَابٍ غَلِيظٍ} يستقبل كل وقت عذابًا أسد وأشق مما كان قبله، وقيل: في: {وَرَاء} هنا نحو ما قيل فيما تقدم أمامه، وذكر هذه الجملة لدفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا، وقيل: ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار، وروى ذلك عن الكلبي، والمراد بهذا العذاب قيل: الخلود في النار وعليه الطبرسي، وقال الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد هذا، وجوز في الكشاف أن تكون هذه الآية أعني قوله تعالى: {واستفتحوا} [إبراهيم: 15] إلى هنا منقطة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار، والواو على هذا قيل: للاستئناف، وقيل: للعطف إما على قوله تعالى: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2] أو على خبر: {أُوْلَئِكَ في ضلال بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] لقربه لفظًا ومعنى، والوجه الأول أوجه لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار ولأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولًا أوليًا فإن المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا.{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ}مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب إليه سيبويه، وقوله سبحانه: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} جملة مستأنفة لبيان مثلهم، ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره، وتعقبه الحوفي بأنه لا يجوز لخلو الجملة عمار يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغني عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة.وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الذين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك: صفة زيد عرضه مصمون وماله مبذول، قيل: ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه بمعنى الفة، والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال: صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا، وهذا وإن كان مجازًا على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف إليه لأن المضاف ذكر توطئة له فإن ذلك أضعف من بيت العنكبوت كما علمت.وذهب الكسائي.والفراء إلى أن: {مَثَلُ} مقحم وتقدم ما عليه وله، وقال الحوفي: هو مبتدأ و: {كَرَمَادٍ} خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتمال كما في قوله:
وفيه خفاء، ولعله اعتبر المضاف إليه.وفي الكشاف: جواز كونه بدلًا من: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ} لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذي كفروا مثل أعمالهم كرماد، قال في الكشف: وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات، وفيه تفخيم اهـ، وقيل: إنه على هذا التقدير أيضًا بدل اشتمال لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل، والمراد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة وشذ جمعه على أفعلاء قالوا أرمداء كذا في البحر وذكر في القاموس أن الإرمداء كالأربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع، والمراد بأعمالهم ما هو من باب المكارم كصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأساري وقرى الأضياف وإغاثة الملهوفين وغير ذلك، وقيل: ما فعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم، وقيل: ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى، وجيء بالجملة على ما اختاره بعضهم جوابًا لما يقال: ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل؟ إذ بين فيها أنها كرماد: {اشتدت بِهِ الريح} أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد من شد بمعنى عدا، والباء للتعدية أو للملابسة، وجوز أن يكون من الشدة بمعنى القوة أي قويت بملابسة حمله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الإسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة، وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله: والتنوين على هذا عوض من المضاف إليه، وضعف هذا القول ظاهر، وقيل: إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار، وفيه أنه لا يصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفًا وتنكيرًا، وقرأ نافع.وأبو جعفر: {الرياح} على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية، وقرأ ابن أبي إسحاق.وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} على الإضافة، وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف، وقد يقال: إنه من إضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك: {لاَّ يَقْدِرُونَ} أي يوم القيامة: {مِمَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من تلك الأعمال: {على شَئ} ما أي لا يرون له أثرًا من ثواب أو تخفيف عذاب.ويؤيد التعميم ما ورد في الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وقيل: الكلام على حذف مضاف إي لا يقدرون من ثواب ما كسبوا على شيء ما والأول أولى، وقدم المتعلق الأول للا يقدرون على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة، وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثورًا لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والايمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاطف وفرقته، وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه، قيل: والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شعفاء لهم عند الله تعالى، وفيه تهكم بهم: {ذلك} أي ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء: {هُوَ الضلال البعيد} عن طريق الحق والصواب، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد. اهـ. .قال الشوكاني: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} هؤلاء القائلون هم طائفة المتمرّدين عن إجابة الرسل، واللام في لنخرجنكم هي الموطئة للقسم، أي: والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترءوا عليهم بهذا، وخيروهم بين الخروج من أرضهم، أو العود في ملتهم الكفرية.وقد قيل: إن {أو} في: {أو لتعودنّ} بمعنى حتى، أو يعني: إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين، وردّ بأنه لا حاجة إلى ذلك، بل {أو} على بابها للتخيير بين أحد الأمرين، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأعراف.قيل: والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها.وقيل: إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب على أتباعهم: {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي: إلى الرسل: {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} أي قال لهم: لنهلكن الظالمين.{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض} أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها} [الأعراف: 137].وقال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم} [الأحزاب: 27] وقرئ {ليهلكن}، {وليسكننكم} بالتحتية في الفعلين اعتبارًا بقوله: {فأوحى}، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي: موقفي، وذلك يوم الحساب، فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة.وبالضم فعل الإقامة، وقيل: إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام، أي: لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33].وقال الأخفش: {ذلك لمن خاف مقامي} أي: عذابي: {وَخَافَ وَعِيدِ} أي: خاف وعيدي بالعذاب.وقيل: بالقرآن وزواجره.وقيل: هو نفس العذاب، والوعيد الاسم من الوعد.{واستفتحوا} معطوف على: {أوحى}، والمعنى: أنهم استنصروا بالله على أعدائهم، أو سألوا الله القضاء بينهم، من الفتاحة وهي الحكومة ومن المعنى الأوّل قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر.ومن المعنى الثاني قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 19] أي: احكم، والضمير في: {استفتحوا} للرسل.وقيل: للكفار.وقيل: للفريقين: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة، والعنيد المعاند للحق والمجانب له، وهو مأخوذ من العند، وهو الناحية، أي: أخذ في ناحية معرضًا.قال الشاعر:قال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد، وبمثله قال الهروي، وقال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى.وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه.وقيل: المراد به العاصي.وقيل: الذي أبى أن يقول لا إله إلاّ الله.ومعنى الآية: أنه خسر وهلك من كان متصفًا بهذه الصفة: {مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي: من بعده جهنم، والمراد بعد هلاكه على أن وراءها ها هنا بمعنى بعد، ومنه قول النابغة: أي: ليس بعد الله، ومثله قوله: {ومن مِنَ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي: من بعده.كذا قال الفراء.وقيل: من ورائه أي: من أمامه، قال أبو عبيد: هو من أسماء الأضداد، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر، ومنه قول الشاعر: وقال آخر: أي: أمامي، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79].أي: أمامهم، ويقول أبي عبيدة هذا قاله قطرب.وقال الأخفش: هو كما يقال: هذا الأمر من ورائك، أي: سوف يأتيك، وأنا من وراء فلان، أي: في طلبه.وقال النحاس: من ورائه، أي: من أمامه، وليس من الأضداد، ولكنه من توارى، أي: استتر فصارت جهنم من ورائه؛ لأنها لا ترى، وحكى مثله ابن الأنباري.{ويسقى مِن مَّاء صَدِيدٍ} معطوف على مقدّر جوابًا عن سؤال سائل، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ قيل: يلقى فيها ويسقى، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار، واشتقاقه من الصدّ، لأنه يصدّ الناظرين عن رؤيته، وهو دم مختلط بقيح، والصديد صفة لماء.وقيل: عطف بيان منه: {ويتجرعه} في محل جر على أنه صفة لماء، أو في محل نصب على أنه حال.وقيل: هو استئناف مبنيّ على سؤال.والتجرع التحسي أي: يتحساه مرة بعد مرّة لا مرّة واحدة لمرارته وحرارته: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يبتلعه، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغًا: إذا كان سهلًا، والمعنى: ولا يقارب إساغته، فكيف تكون الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى.وقيل: إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء، كقوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي: يفعلون بعد إبطاء، كما يدلّ عليه قوله تعالى في آية أخرى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ} [الحج: 20]: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ} أي: تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات.
|